سورة يوسف - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


المتكأ: الوسادة، والنمرقة. المتك: الأترج، والواحد متكة قال الشاعر:
فاهدت متكة لهي أبيها ***
وقيل: اسم يعم جميع ما يقطع بالسكين الأترج وغيره من الفواكه. قال:
يشرب الإثم بالصواع جهاراً *** ونرى المتك بيننا مستعارا
وهو من متك بمعنى بتك الشيء أي قطعه. وقال صاحب اللوامح: المتك بالضم عند الخليل العسل، وعند الأصمعي الأترج. وقال أبو عمر: والشراب الخالص. وقال أبو عمر: وفيه ثلاث لغات، المتك بالحركات الثلاث، وقيل: بالكسر الخلال، وقيل: بل المسك. وقال الكسائي أيضاً: فيه اللغات الثلاث، وقد يكون بالفتح المجمر عند قضاعة. وقال أيضاً: قد يكون في اللغات الثلاث الفالوذ المعقد. وقال الفضل: في اللغات الثلاث هو البزماورد، وكل ملفوف بلحم ورقاق. وقال أيضاً: المتك بالضم المائدة، أو الخمر في لغة كندة. السكين: تذكر وتؤنث، قاله الفراء والكسائي. ولم يعرف الأصمعي فيه إلا التذكير. حاش: قال الفراء من العرب من يتمها، وفي لغة الحجاز: حاش لك، وبعض العرب: حشى زيد كأنه أراد حشى لزيد، وهي في أهل الحجاز انتهى. وقال الزمخشري: حاشى كلمة تفيد معنى التنزيه في الاستثناء، تقول: أساء القوم حاشى زيد. قال:
حاشى أبي ثوبان أن لنا *** ضنا عن الملحاة والشتم
وهي حرف من حروف الجر فوضعت موضع التنزيه والبراءة، فمعنى حاش الله: براءة الله، وتنزيه الله انتهى. وما ذكر أنها تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء غير معروف عند النحويين، لا فرق بين قولك: قام القوم إلا زيداً، وقام القوم حاشى زيد. ولما مثل بقوله أساء القوم حاشى زيد، وفهم من هذا التمثيل براءة زيد من الإساءة، جعل ذلك مستفاداً منها في كل موضع. وأما ما أنشده من قوله: حاشى أبي ثوبان، فكذا ينشده ابن عطية، وأكثر النحاة. وهو بيت ركبوا فيه صدر بيت على عجز آخر، وهما من بيتين وهما:
حاشى أبي ثوبان أن أبا *** ثوبان ليس ببُكْمَة فدْمِ
عمرو بن عبد الله إن به *** ضنًّا عن الملحاة والشتَم
{فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهنّ متكئاً وآتت كل واحدة منهنّ سكيناً وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم}: روي أن تلك المقالة الصادرة عن النسوة إنما قصدن بها المكر بامرأة العزيز ليغضبنها حتى تعرض عليهن يوسف ليبين عذرها، أو يحق لومها ومكرهن هو اغتيابهن إياها، وسوء مقالتهن فيها أنها عشقت يوسف. وسمي الاغتياب مكراً، لأنه في خفية وحال غيبة، كما يخفي الماكر مكره. وقيل: كانت استكتمتهن سرها فأفشينه عليها، أرسلت إليهن ليحضرن. قيل: دعت أربعين امرأة منهن الخمس المذكورات. والظاهر عود الضمير على تلك النسوة القائلة ما قلن عنها.
وأعتدت لهن متكئاً أي: يسرت وهيئأت لهن ما يتكئن عليه من النمارق والمخادّ والوسائد، وغير ذلك مما يكون في مجلس أعد للكرامة. ومن المعلوم أن هذا النوع من الإكرام لا يخلو من طعام وشراب، وهنا محذوف تقديره: فجئن واتكأن. ومتكئاً إما أن يراد به الجنس، وإما أن يكون المراد وأعتدت لكل واحدة منهن متكئاً، كما جاءت وآتت كل واحدة منهن سكيناً. قال ابن عباس متكئاً مجلساً، ذكره الزهراوي، ويكون متكئاً ظرف مكان أي: مكاناً يتكئن فيه. وعلى ما تقدم تكون الآلات التي يتكأ عليها. وقال مجاهد: المتكأ الطعام يحز حزاً. قال القتبي: يقال اتكأنا عند فلان أي أكلنا، ويكون هذا من المجاز عبر بالهيئة التي يكون عليها الآكل المترف بالمتكأ وهي عادة المترفين، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «أما أنا فلا آكل متكئاً» أو كما قال: وإذا كان المتكأ ليس معبراً به عما يؤكل، فمعلوم أنّ مثل هذا المجلس لا بد فيه من طعام وشراب، فيكون في جملة الطعام ما يقطع بالسكاكين. فقيل: كان لحماً وكانوا لا ينهشون اللحم، إنما كانوا يأكلونه حزاً بالسكاكين. وقيل: كان أترجاً، وقيل: كان بزماورد وهو شبيه بالأترج موجود في تلك البلاد. وقيل: هو مصنوع من سكر ولوز وأخلاط، ومضمونه: أنه يحتاج إلى أن يقطع بالسكين، وعادة من يقطع شيئاً أن يعتمد عليه، فيكون متكئاً عليه. قيل: وكان قصدها في بروزهن على هذه الهيئات متكئات في أيديهن سكاكين يحززن بها شيئين: أحدهما: دهشهن عند رؤيته وشغلهن بأنفسهن، فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها فتبكتهن، ويكون ذلك مكراً بهن إذ ذهلن عما أصابهنّ من تقطيع أيديهن، وما أحسسن به مع الألم الشديد لفرط ما غلب عليهن من استحسان يوسف وسلبه عقولهن. والثاني: التهويل على يوسف بمكرها إذا خرج على نساء مجتمعات في أيديهن الخناجر، توهمه أنهن يثبن عليه، فيكون يحذر مكرها دائماً. ولعله يجيبها إلى مرادها على زعمها ذلك، ويوسف قد عصمه الله من كل ما تريده به من السوء.
وقرأ الزهري، وأبو جعفر، وشيبة: متكي مشدد التاء من غير همز بوزن متقي، فاحتمل ذلك وجهين: أحدهما: أن يكون من الاتكاء، وفيه تخفيف الهمز كما قالوا في توضأت توضئة. والثاني: يكون مفتعلاً من أوكيت السقاء إذا شددته أي: ما يشتددن عليه، إما بالاتكاء، وإما بالقطع بالسكين. وقرأ الأعرج: متكئاً مفعلاً من تكأ يتكأ إذا اتكأ. وقرأ الحسن: وابن هرمز: متكاء بالمد والهمز، وهو مفتعل من الاتكاء، إلا أنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف كما قالوا: ومن ذم الرجال بمنتزاح. وقالوا:
أعوذ بالله من العقراب *** الشائلات عقد الاذناب
وقرأ ابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والجحدري، والكلبي، وابان بن تغلب: متكئاً بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف، وجاء كذلك عن ابن هرمز.
وقرأ عبد الله ومعاذ، وكذلك إلا أنهما فتحا الميم، وتقدم تفسير متك، ومتك في المفردات. وقالت: اخرج عليهن، هذا الخطاب ليوسف عليه السلام. وخروجه يدل على طواعيتها فيما لا يعصي الله فيه، وفي الكلام حذف تقديره: فخرج عليهن. ومعنى أكبرنه: أعظمنه ودهشن برؤية ذلك الجمال الفائق الرائع. قيل: كان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء.وفي حديث الإسراء أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبر بلقيا يوسف قيل: يا رسول الله كيف رأيته؟ قال: «كالقمر ليلة البدر» وقيل: كان إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران، كما يرى نور الشمس. وقيل: كان يشبه آدم يوم خلقه ربه. وقيل: ورث الجمال عن جدته سارة. وقال عبد الصمد بن علي الهاشمي، عن أبيه، عن جده: معناه حضن، وأنشد بعض النساء حجة لهذا التأويل:
تأتي النساء على أطهارهن ولا *** تأتي النساء إذا أكبرن إكبارا
قال ابن عطية: وهذا قول ضعيف، والبيت مصنوع مختلق، كذلك قال الطبري وغيره من المحققين، وليس عبد الصمد من رواة العلم رحمة الله. وقال الزمخشري: وقيل أكبرن بمعنى حضن، والهاء للسكت يقال: أكبرت المرأة إذا حاضت، وحقيقته من الكبر لأنها بالحيض تخرج عن حد الصغر إلى حد الكبر، وكأن أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله:
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع *** فإن لحت حاضت في الخدور العواتق
انتهى. وإجماع القراء على ضم الهاء في الوصل دليل على أنها ليست هاء السكت، إذ لو كانت هاء السكت، وكان من أجرى الوصل مجرى الوقف، لم يضم الهاء. والظاهر أن الضمير يعود في أكبرنه على يوسف إن ثبت أن أكبر بمعنى حاض، فتكون الهاء عائدة على المصدر أي: أكبرن الإكبار. وقطعن أيديهن أي جرحنها، كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي. والتضعيف للتكثير إما بالنسبة لكثرة القاطعات، وإما بالنسبة لتكثير الحز في يد كل واحدة منهن. فالجرح كأنه وقع مراراً في اليد الواحدة وصاحبتها لا تشعر لما ذهلت بما راعها من جمال يوسف، فكأنها غابت عن حسها. والظاهر أن الأيدي هي الجوارح المسماة بهذا الاسم.
وقال عكرمة: الأيدي هنا الأكمام، ولما فعلن هذا الفعل الصعب من جرح أيديهن، وغلب عليهن ما رأين من يوسف وحسنه قلن: حاش لله. قرأ الجمهور: حاش لله بغير ألف بعد الشين، ولله بلام الجر. وقرأ أبو عمرو: حاشا لله بغير ألف، ولام الجر. وقرأت فرقة منهم الأعمش: حشى على وزن رمى لله بلام الجر. وقرأ الحسن: حاش بسكون الشين وصلاً، ووقفاً بلام الجر.
وقرأ أبيّ وعبد الله: حاشى الله بالإضافة، وعنهما كقراءة أبي عمر، قاله صاحب اللوامح. وقرأ الحسن: حاش الإله. قال ابن عطية: محذوفاً من حاشى. وقال صاحب اللوامح: بحذف الألف، وهذه تدل على كونه حرف جر يجر ما بعده. فأما الإله فإنه فكه عن الإدغام، وهو مصدر أقيم مقام المفعول، ومعناه المألوه بمعنى المعبود. قال: وحذفت الألف من حاش للتخفيف انتهى. وهذا الذي قاله ابن عطية وصاحب اللوامح: من أن الألف في حاشى في قراءة الحسن محذوفة لا تتعين، إلا أن نقل عنه أنه يقف في هذه القراءة بسكون الشين، فإن لم ينقل عنه في ذلك شيء فاحتمل أن تكون الألف حذفت لالتقاء الساكنين، إذ الأصل حاشى الإله، ثم نقل فحذف الهمزة وحرّك اللام بحركتها، ولم يعتد بهذا التحريك لأنه عارض، كما تنحذف في يخشى الإله. ولو اعتد بالحركة لم تحذف الألف. وقرأ أبو السمال: حاشا لله بالتنوين كرعياً لله، فأما القراآت لله بلام الجر في غير قراءة أبي السمال فلا يجوز أن يكون ما قبلها من حاشى، أو حاش، أو حشى، أو حاش حرف جر، لأنّ حرف الجر لا يدخل على حرف الجر، ولأنه تصرف فيهما بالحذف، وأصل التصرف بالحذف أن لا يكون في الحروف. وزعم المبرد وغيره كابن عطية: أنه يتعين فعليتها، ويكون الفاعل ضمير يوسف أي: حاشى يوسف أن يقارف ما رمته به. ومعنى لله: لطاعة الله، أو لمكانة من الله، أو لترفيع الله أن يرمي بما رمته به، أو يذعن إلى مثله، لأنّ ذلك أفعال البشر، وهو ليس منهم، إنما هو ملك. وعلى هذا تكون اللام في لله للتعليل أي: جانب يوسف المعصية لأجل طاعة الله، أو لما ذهب قبل. وذهب غير المبرد إلى أنها اسم، وانتصابها انتصاب المصدر الواقع بدلاً من اللفظ بالفعل كأنه قال: تنزيهاً لله. ويدل على اسميتها قراءة أبي السمال حاشا منوناً، وعلى هذا القول يتعلق لله بمحذوف على البيان كلك بعد سقيا، ولم ينون في القراآت المشهورة مراعاة لأصله الذي نقل منه وهو الحرف. ألا تراهم قالوا: من عن يمينه، فجعلوا عن اسماً ولم يعربوه وقالوا: من عليه فلم يثبتوا ألفه مع المضمر، بل أبقوا عن على بنائه، وقلبوا ألف على مع الضمير مراعاة لأصلها؟ وأما قراءة الحسن وقراءة أبي بالإضافة فهو مصدر مضاف إلى ألفه كما قالوا: سبحان الله، وهذا اختيار الزمخشري. وقال ابن عطية: وأما قراءة أبي بن كعب وابن مسعود فقال أبو علي: إن حاشى حرف استثناء، كما قال الشاعر:
حاشى أبي ثوبان ***
وأما قراءة الحسن حاش بالتسكين ففيها جمع بين ساكنين، وقد ضعفوا ذلك. قال الزمخشري: والمعنى تنزيه الله من صفات العجز، والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله.
وأما قوله: حاشى لله، ما علمنا عليه من سوء، فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله. ما هذا بشراً لما كان غريب الجمال فائق الحسن عما عليه حسن صور الإنسان، نفين عنه البشرية، وأثبتن له الملكية، لما كان مركوزاً في الطباع حسن الملك، وإن كان لا يرى. وقد نطق بذلك شعراء العرب والمحدثون قال بعض العرب:
فلست لأنسى ولكن لملاك *** تنزل من جو السماء يصوب
وقال بعض المحدثين:
قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة *** حسناً وإن قوتلوا كانوا عفاريتا
وانتصاب بشراً على لغة الحجاز، ولذا جاء {ما هن أمهاتهم إنْ أمهاتهم} وما منكم من أحد عنه حاجزين، ولغة تميم الرفع. قال ابن عطية: ولم يقرأ به. وقال الزمخشري: ومن قرأ على سليقته من بني تميم قرأ بشر بالرفع، وهي قراءة ابن مسعود انتهى. وقرأ الحسن وأبو الحويرث الحنفي: ما هذا بشرى، قال صاحب اللوامح: فيحتمل أن يكون معناه بمبيع أو بمشرى أي: ليس هذا مما يشترى ويباع. ويجوز أن يكون ليس بثمن كأنه قال: هو أرفع من أن يجري عليه شيء من هذه الأشياء، فالشراء هو مصدر أقيم مقام المفعول به. وتابعهما عبد الوارث عن أبي عمرو على ذلك، وزاد عليهما: إلا ملك بكسر اللام واحد الملوك، فهم نفوا بذلك عنه ذل المماليك وجعلوه في حيز الملوك، والله أعلم انتهى. ونسب ابن عطية كسر اللام للحسن وأبي الحويرث اللذين قرآ بشرى قال: لما استعظمن حسن صورته قلن هذا ما يصلح أن يكون عبداً بشرى، إنْ هذا إلا يصلح أن يكون ملكاً كريماً. وقال الزمخشري: وقرئ ما هذا بشرى أي: بعبد مملوك لئيم، إنْ هذا إلا ملك كريم. تقول: هذا بشرى أي حاصل بشرى، بمعنى هذا مشتري. وتقول: هذا لك بشرى، أي بكراً. وقال: وإعمال ما عمل ليس هي اللغة القدمى الحجازية، وبها ورد القرآن انتهى. وإنما قال القدمي، لأنّ الكثير في لغة الحجاز إنما هو جر الخبر بالباء، فتقول: ما زيد بقائم، وعليه أكثر ما جاء في القرآن. وأما نصب الخبر فمن لغة الحجاز القديمة، حتى أنّ النحويين لم يجدوا شاهداً على نصب الخبر في أشعار الحجازيين غير قول الشاعر:
وأنا النذير بحرة مسودة *** تصل الجيوش إليكم أقوادها
أبناؤها متكنفون أباهم *** حنقو الصدور وما هم أولادها
وقال الفراء وهو سامع لغة حافظ ثقة: لا يكاد أهل الحجاز، ينطقون إلا بالباء، فلما غلب على أهل الحجاز النطق بالباء قال الزمخشري: اللغة القدمى الحجازية، فالقرآن جاء باللغتين القدمى وغيرها.


ذا اسم الإشارة، واللام لبعد المشار، وكن خطاب لتلك النسوة. واحتمل أن يكون لما رأى دهشهن وتقطيع أيديهن بالسكاكين وقولهن: ما هذا بشراً، بعد عنهن إبقاء عليهن في أنْ لا تزداد فتنتهن، وفي أنْ يرجعن إلى حسنهن، فأشارت إليه باسم الإشارة الذي للبعيد، ويحتمل أن تكون أشارت إليه وهو للبعد قريب بلفظ البعيد رفعاً لمنزلته في الحسن، واستبعاداً لمحله فيه، وأنه لغرابته بعيد أن يوجد منه. واسم الإشارة تضمن الأوصاف السابقة فيه كأنه قيل: الذي قطعتن أيديكن بسببه وأكبرتنه وقلتن فيه ما قلتن من نفي البشرية عنه وإثبات الملكية له، هو الذي لمتنني فيه أي: في محبته وشغفي به، قال الزمخشري: ويجوز أن يكون إشارة إلى المعنى بقولهن: عشقت عبدها الكنعاني تقول: هذا ذلك العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه، يعني: إنكن لو تصورنه بحق صورته، ولو صورتنه بما عاينتن لعذرتنني في الافتننان به انتهى. والضمير في فيه عائد على يوسف. وقال ابن عطية: ويجوز أن تكون الإشارة إلى حب يوسف، والضمير عائد على الحب، فيكون ذلك إشارة إلى غائب على بابه انتهى. ثم أقرت امرأة العزيز للنسوة بالمراودة، واستنامت إليهن في ذلك، إذ علمت أنهن قد عذرنها.
فاستعصم قال ابن عطية: معناه طلب العصمة، وتمسك بها وعصاني. وقال الزمخشري: والاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد، كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها، ونحو: استمسك، واستوسع،، واستجمع الرأي، واستفحل الخطب. وهذا بيان لما كان من يوسف عليه السلام لا مزيد عليه، وبرهان لا شيء أنور منه على أنه بريء مما أضاف إليه أهل الحشو مما فسروا به الهمّ والبرهان انتهى. والذي ذكر التصريفيون في استعصم أنه موافق لاعتصم، فاستفعل فيه موافق لافتعل، وهذا أجود من جعل استفعل فيه للطلب، لأن اعتصم يدل على وجود اعتصامه، وطلب العصمة لا يدل على حصولها. وأما أنه بناء مبالغة يدل على الاجتهاد في الاستزادة من العصمة، فلم يذكر التصريفيون هذا المعنى لاستفعل. وأما استمسك واستوسع واستجمع الرأي فاستفعل فيه موافقة لافتعل، والمعنى: امتسك واتسع واجتمع الرأي، وأما استفحل الخطب فاستفعل فيه موافقة لتفعل أي: تفحل الخطب نحو: استكبر وتكبر. ثم جعلت تتوعده مقسمة على ذلك وهو يسمع قولها بقولها: ولئن لم يفعل ما آمره. والضمير في آمره عائد على الموصول أي: ما آمر به، فحذف الجار، كما حذف في أمرتك الخير. ومفعول آمر الأول محذوف، وكان التقدير ما آمره به. وإن جعلت ما مصدرية جاز، فيعود الضمير على يوسف أي: أمري إياه، ومعناه: موجب أمري. وقرأت فرقة: وليكونن بالنون المشددة، وكتبها في المصحف بالألف مراعاة لقراءة الجمهور بالنون الخفيفة، ويوقف عليها بالألف كقول الأعشى:
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا ***
ومن الصاغرين: من الأذلاء، ولم يذكر هنا العذاب الأليم الذي ذكرته في ما جزاء من أراد بأهلك سوءا، لأنها إذ ذاك كانت في طراوة غيظها ومتنصلة من أنها هي التي راودته، فناسب هناك التغليظ بالعقوبة. وأما هنا فإنها في طماعية ورجاء، وأقامت عذرها عند النسوة، فرقت عليه، فتوعدته بالسجن. وقال له النسوة: أطع وافعل ما أمرتك به، فقال: رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه. فأسند الفعل إليهن لما ينصحن له وزين له مطاوعتها، ونهينه عن الفاء نفسه في السجن والصغار، فالتجأ إلى الله تعالى. والتقدير: دخول السجن. وقرأ عثمان، ومولاه طارق، وزيد بن علي، والزهري، وابن أبي إسحاق، وابن هرمز، ويعقوب: السجن بفتح السين وهو مصدر سجن أي: حبسهم إياي في السجن أحب إليّ وأحب هنا ليست على بابها من التفضيل، لأنه لم يحب ما يدعونه إليه قط، وإنما هذان شران، فآثر أحد الشرّين على الآخر، وإن كان في أحدهما مشقة وفي الآخر لذة، لكن لما يترتب على تلك اللذة من معصية الله وسوء العاقبة، ولم يخطر له ببال. ولما في الآخر من احتمال المشقة في ذات الله، والصبر على النوائب، وانتظار الفرج، والحضور مع الله تعالى في كل وقت داعياً له في تخليصه. آثره ثم ناط العصمة بالله، واستسلم لله كعادة الأنبياء والصالحين، وأنه تعالى لا يصرف السوء إلا هو. فقال: وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن أي: أمل إلى ما يدعونني إليه. وجعل جواب الشرط قوله: أصب، وهي كلمة مشعرة بالميل فقط، لا بمباشرة المعصية. وقرئ أصب إليهن من صببت صبابة فأنا صب، والصبابة إفراط الشوق، كأنه ينصب فيما يهوي. وقراءة الجمهور: أصب من صبا إلى اللهو يصبو صباً وصبوّا، ويقال: صبا يصبا صباً، والصبا بالكسر اللهو واللعب. وأكن من الجاهلين من الذين لا يعلمون بما، لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء، أو من السفهاء لأنّ الوقوع في موافقة النساء والميل إليهن سفاهة. قال الشاعر:
إحدى بليلي وما هام الفؤاد بها *** إلا السفاه وإلا ذكرة حلما
وذكر استجابة الله له ولم يتقدم لفظ دعاء لأن قوله: وإلا تصرف عني، فيه معنى طلب الصرف والدعاء، وكأنه قال: رب اصرف عني كيدهن، فصرف عنه كيدهن أي: حال بينه وبين المعصية. إنه هو السميع لدعاء الملتجئين إليه، العليم بأحوالهم وما انطوت عليه نياتهم. ثم بدا لهم أي: ظهر لهم، والفاعل لبدا ضمير يفسره ما يدل عليه المعنى أي: بدا لهم هو أي رأى أو بدا. كما قال:
بدا لك من تلك القلوص بداء ***
هكذا قاله النحاة والمفسرون، إلا من أجاز أن تكون الجملة فاعلة، فإنه زعم أن قوله: ليسجننه في موضع الفاعل لبدا أي: سجنه حتى حين، والرد على هذا المذهب مذكور في علم النحو.
والذي أذهب إليه أن الفاعل ضمير يعود على السجن المفهوم من قوله: ليسجنن، أو من قوله: السجن على قراءة الجمهور، أو على السجن على قراءة من فتح السين. والضمير في لهم للعزيز وأهله، والآيات هي: الشواهد الدالة على براءة يوسف. قال مجاهد وغيره: قد القميص، فإن كان الشاهد طفلاً فهي آية عظيمة، وإن كان رجلاً فيكون استدلالاً بالعادة. والذي يظهر أنّ الآية إنما يعبر بها عن الواضح الجلي، وجمعها يدل على ظهور أمور واضحة دلت على براءته، وقد تكون الآيات التي رأوها لم ينص على جميعها في القرآن، بل رأوا قول الشاهد. وقد القميص وغير ذلك مما لم يذكره. وأما ما ذكره عكرمة أن من الآيات خمش وجهها، والسدي من حز أيديهن، فليس في ذلك دلالة على البراءة فلا يكون آية. وليسجننه جواب قسم محذوف والقسم وجوابه معمول لقول محذوف تقديره قائلين. وقرأ الحسن: لتسجننه بالتاء على خطاب بعضهم العزيز ومن يليه، أو العزيز وحده على وجه التعظيم. وقرأ ابن مسعود: عتى بإبدال حاء حتى عينا، وهي لغة هذيل. وأقرأ بذلك فكتب إليه يأمره أن يقرئ بلغة قريش حتى لا بلغة هذيل، والمعنى: إلى زمان. والحين يدل على مطلق الوقت، ومن عين له هنا زماناً فإنما كان ذلك باعتبار مدة سجن يوسف، لا أنه موضوع في اللغة كذلك، وكأنها اقترحت زماناً حتى تبصر ما يكون منه. وفي سجنهم ليوسف دليل على مكيدة النساء، واستنزال المرأة لزوجها ومطاوعته لها، وعشقه لها، وجعله زمام أمره بيدها، هذا مع ظهور خيانتها وبراءة يوسف. روي أنه لما امتنع يوسف من المعصية، ويئست منه امرأة العزيز قالت لزوجها: إن هذا الغلام العبراني قد فضحني في الناس، وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر بحسب اختياره، وأنا محبوسة محجوبة، فأما أذنت لي فخرجت إلى الناس فاعتذرت وكذبته، وإلا حبسته كما أنا محبوسة، فحينئذ بدا لهم سجنه، قال ابن عباس: فأمر به فحمل على حمار، وضرب بالطبل، ونودي عليه في أسواق مصر أنّ يوسف العبراني أراد سيدته، فهذا جزاؤه أن يسجن. قال أبو صالح: ما ذكر ابن عباس هذا الحديث إلا بكي.


عصر العنب وغيره أخرج ما فيه من المائع بقوة. الخبر: معروف، وجمعه اخباز، ومعانيه خباز.
{ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمراً وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين}: في الكلام حذف تقديره: فسجنوه، فدخل معه السجن غلامان. وروي أنهما كانا للملك الأعظم الوليد بن الريان، أحدهما خبازه، والآخر ساقيه. وروي أن الملك اتهمهما بأن الخابز منهما أراد سمه ووافقه على ذلك الساقي، فسجنهما قاله: السدي. ومع تدل على الصحبة واستحداثها، فدل على أنهم سجنوا الثلاثة في ساعة واحدة. ولما دخل يوسف السجن استمال الناس بحسن حديثه وفضله ونبله، وكان يسلي حزينهم، ويعود مريضهم، ويسال لفقيرهم، ويندبهم إلى الخير، فأحبه الفتيان ولزماه، وأحبه صاحب السجن والقيم عليه وقال له: كن في أي البيوت شئت فقال له يوسف: لا تحبني يرحمك الله، فلقد أدخلت على المحبة مضرات، أحبتني عمتي فامتحنت بمحبتها، وأحبني أبي فامتحنت بمحبته، وأحبتني امرأة العزيز فامتحنت بمحبتها بما ترى. وكان يوسف عليه السلام قد قال لأهل السجن: إني أعبر الرؤيا وأجيد. وروي أن الفتيين قالا له: إنا لنحبك من حين رأيناك فقال: أنشدكما الله أنْ لا تحباني، وذكر ما تقدم. وعن قتادة: كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم، فجعل يقول: اصبروا وابشروا تؤجروا إن لهذا لأجراً فقالوا: بارك الله عليك، ما أحسن وجهك، وما أحسن خلقك! لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى؟ قال يوسف: ابن صفي الله يعقوب، ابن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله ابراهيم. فقال له عامل السجن: لو استطعت خليت سبيلك.
وهذه الرؤيا التي للفتيين قال مجاهد: رأيا ذلك حقيقة فأراد سؤاله. وقال ابن مسعود والشعبي: استعملاها ليجرباه. والذي رأى عصر الخمر اسمه بنو قال: رأيت حبلة من كرم لها ثلاثة أغصان حسان، فيها عناقيد عنب حسان، فكنت أعصرها وأسقي الملك. والذي رأى الخبز اسمه ملحب قال: كنت أرى أن أخرج من مطبخة الملك وعلى رأسي ثلاث سلال فيها خبز، والطير تأكل من أعلاه، ورأى الحلمية جرت مجرى أفعال القلوب في جواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متحدي المعنى، فأراني فيه ضمير الفاعل المستكن، وقد تعدى الفعل إلى الضمير المتصل وهو رافع للضمير المتصل، وكلاهما لمدلول واحد. ولا يجوز أن يقول: اضربني ولا أكرمني. وسمى العنب خمراً باعتبار ما يؤول إليه. وقيل: الخمر بلغة غسان اسم العنب. وقيل: في لغة ازد عمان. وقال المعتمر: لقيت أعرابياً يحمل عنباً في وعاء فقلت: ما تحمل؟ قال: خمراً، أراد العنب. وقرأ أبي وعبد الله: أعصر عنباً، وينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لمخالفته سواد المصحف، وللثابت عنهما بالتواتر قراءتهما أعصر خمراً.
قال ابن عطية: ويجوز أن يكون وصف الخمر بأنها معصورة، إذ العصر لها ومن أجلها. وفي مصحف عبد الله: فوق رأسي ثريداً تأكل الطير منه، وهو أيضاً تفسير لا قراءة. والضمير في تأويله عائداً إلى ما قصا عليه، أجرى مجرى اسم الإشارة كأنه قيل: بتأويل ذلك. وقال الجمهور: من المحسنين أي في العلم، لأنهما رأيا منه ما علما به أنه عالم. وقال الضحاك وقتادة: من المحسنين في حديثه مع أهل السجن وإجماله معهم. وقال ابن إسحاق: أرادا إخباره أنهما يريان له إحساناً عليهما ويداً، إذا تأول لهما ما رأياه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8